“العرب اللندنية”
الأب فرانس لم يكن يفرق بين مسلم ومسيحي، ضحى بنفسه من أجل الآخرين حين رفض المغادرة واختار أن يشارك الشعب السوري ألمه.
حمص- ما فتئ الاقتتال الذي تشهدهُ سوريا منذ ثلاث سنوات ونيف، يُقضّ مضاجع البشريّة جمعاءَ بصور ومشاهدَ دمويّة لا يمكن أن التفرّيق بين ضحاياها على أُسُس دينيّة أو طائفيّة أو مذهبية لشموليّة المأساة.
غير أنّ هذه المأساة أبت إلاّ أن تُنبت من رحمها بذرة أمل، علّها تُذكّر بسماحة شعب أنهكته رائحة الدماء، وتؤسّس لقادم ربّما سيُشرق يوما من تحت الحُطام الذي حلّ بالبلاد والنّفوس على حدّ سواء. أملٌ قوامه التعايش والتسامح، كان الأب فرانس، المقتول غدرًا، يرمي إلى إشاعته وقد كان يسير بين النّاس، وهاهو اليوم مَاضٍ في إصراره على نشره حتّى بعد أن وُوري الثّرى.
في دير الآباء اليسوعيين في وسط حمص القديمة المدمرة، تحول مدفن الكاهن الهولندي فرانس فاندرلوخت، الذي قتل في أبريل الماضي، إلى محجّ لأناس كثيرين ممّن عرفوه أو سمعوا عنه وعن إنسانيته اللاّمحدودة الّتي حولته إلى “شفيع″ لسكان هذه المدينة المنكوبة. رجل الدين الهولندي، وُوري الثرى في حديقة الدير حيث كان يحب تمضية وقته، في قبر متواضع يجتمع حوله زوار من جلّ الديانات يذكرونه بالصلاة والدموع.
واختار الأب الّذي قتل في السابع من أبريل وهو في الخامسة والسبعين من العمر، البقاء مع المدنيّين الذين حوصروا لنحو عامين في حمص القديمة من قبل القوات النظامية، على الرغم من انعدام المواد الغذائية والقصف المتواصل. وبرز اسمه في العالم مطلع العام 2014، عندما وجه نداء لنجدة السكان الّذين أنهكهم الحصار من خلال شريط مصور بثّه على موقع الـ”يوتيوب”.
ويقول، كنان متري، المكلف من الدير بجمع شهادات عن الكاهن اليسوعي تمهيدا لإعداد كتاب عنه، إنّ الأب فرانس “كان قديسا لأنّه كان خدوما”. ويضيف “لقد كان فان در لوخت، الكاهن الوحيد، والأجنبي الوحيد الّذي بقي في حمص القديمة، وضحى بنفسه من أجل الآخرين”.
ويغلب الحزن والتأثر على عشرات الزائرين، سواء من الرجال أوالنساء، الذين يمرون على مدفن الكاهن بصفة يوميّة، ولا يتمالكون أنفسهم عن ذرف الدموع. ويقوم البعض من هؤلاء برسم إشارة الصليب على صدورهم أو التأمل بصمت وحزن، أو حتى قراءة الفاتحة من قبل الزوار المسلمين.
من جهته، يقول أحد الزوّار بتأثر: “لقد كان ينقل والدي المريض على متن دراجته الهوائية، إلى المستشفى الميداني الّذي أقامه عدد من مقاتلي المعارضة، تحت القصف”.ويضيف “كان يردد دائما؛ أنا لست سوريا، لكنّني أحب سوريا كما لو كانت بلدي. سأكون الأخير الذي يغادر هذا المكان”.
وكان الكاهن المتواضع ذو الجسد النحيل والشعر الأبيض، قد قال لوكالة فرانس برس عبر الإنترنت، في شهر فبراير الماضي، إنّه اختار البقاء في حمص “ليشارك” الشعب السوري “ألمه” في الظروف الصعبة التي يعانيها. وأكد باللّغة العربيّة، التي كان يتكلّمها بطلاقة، “أنّ السّوريّين قدّموا له الكثير”.
وبالعودة إلى وصف المدفن المحاط بالزهور، رُفعت صورة للأب فرانس وهو يبتسم، وإلى جانبه طفل صغير لف ذراعيه حول ركبته. وفي سجل التعازي كتب زوار عبارة “السلام إلى روحك يا رمز الإنسانية”. ويحتفظ الكثيرون بذكريات لا تُمحى عن الكاهن الطيّب الذي أمضى قرابة 50 عاما في سوريا، أطلق خلالها مشاريع زراعية لصالح الفقراء، وأقام الصلوات مع المسيحيين والمسلمين على حدّ السواء.
ويقول شربل (15 عاما) “في أحد الشعانين عام 2012، انتقل تحت القصف من الدير في حي بستان الديوان إلى حي باب السباع (حيان في حمص القديمة كانا تحت سيطرة المقاتلين)، حيث كنّا نسكن لإقامة القداس بعد أن غادر كلّ الكهنة الآخرين”. ومن أبلغ الذكريات الّتي يحفظها الناس عن الأب فرانس، قيامه بتوزيع أوعية المياه والخبز على العائلات المحاصرة مستخدما دراجته الهوائية. وكان الكاهن، الذي درس علم النفس، ملجأ للأشخاص الّذين يُعانون الاكتئاب، يُنصت لكلّ من قصده ليشكي له مشاكله ومشاغله.
ويقوم بعض الزوار برسم إشارة الصليب على صدورهم أو التأمل بصمت وحزن، أو حتى قراءة الفاتحة على قبره
اترك تعليقا بدون أية روابط