الموتى في حمص لا ينتظرون مَن يكتب إليهم
“لن يعود مصطفى الياسين الى حمص، وهو الذي غادرها مضطراً إلى فنلندا قبل ربع قرن. لم يفعلها من قبل، يوم كان الحنين يضرب عينيه بأجنحة فراشاته، فلِمَ يفعلها الآن وقد ملأ وسادته بريش اليأس؟
يحتاج الخراب إلى جنود مجهولين، أرباب من تمر ولوز، أشجار ياسمين اصطناعية ذابلة وأصابع لا يزال الحبر السرّي يسكنها. لن يمدّ أحدٌ من الناجين يده إلى يد أحد يقف في انتظاره، يعرف أنه يشتاق إليه ويحنّ إلى البكاء على كتفه. لكن النظرة تكفي لارتجال ماضٍ سيحضر هذه المرة محمولاً على ظهر حمار. بطيئاً سيكون ذلك الماضي في مشيته، لئلا يكتشف الاطفال عجزه عن الوصول إلى لحظة صفره من الزمن. زمنه الخاص الذي صار يعوق خطواته وهو يزنّر قدميه بسوارين من ذهب زائف. كانت المنافي، وهي من حديد، أخفّ وطأةً عليه من ذهب العودة. سيكون على أوديب أن يفقأ عينيه من أجل أن لا يرى سرير عاره. سيمشي الزمن على العاصي الذي فقد الكثير من بهجة أمواجه بقدمَي ديك الجن الذي يدرك الآن أنه صار يحمل على كتفيه جثتين: جثة امرأته التي ذبحها حباً في مواجهة الخوف من الحب الفائض، وجثة مدينته التي ذبحها الغرباء خوفاً من لحظة حبّها التي قد لا تحلّ. لا يودّ مصطفى الياسين أن يقضي وقته مشطوراً بين مدينتين. مدينة تركها ليعيش هاجس حنينه إليها بغصة الأم القادمة بسلام من المخبز، ومدينة يسيل هلعه على طرقها، مثل حارس ليلي كلّفه اللصوص حراسة الخراف التي خططوا لسرقتها. يعرف أن وقته لن يتسع لسؤال من نوع “أين تقع حمص القديمة؟”، فللجغرافيا هي الأخرى خيالها الوحشي. ستهدي إليك الحرب مدينة أخرى. لا يكفي أن تصف منازلها بالأطلال. لا ينفع الوصف الجاهلي في اللحاق بالحقيقة، ولا يكفي أن يتلفت القلب. للحجارة قلب أيضاً. لا تتسلق النباتات جداراً إلا إذا كانت هناك روح قد استدعتها من أعماقه. حتى الحجر المنسي بين غصنين يابسين، صار يدرك أن هناك عالماً بأكمله أزيل ليحلّ محلّه الفراغ الكوني. وما الثقوب على الجدران إلا حروفٌ من جملة إلهية طويلة، كان الدخان قد ارتفع بالجزء الأكبر من أصواتها إلى السماء.
التصنيفات : المقالات
اترك تعليقا بدون أية روابط